كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كُلَما نظر إلي الثراء الضَخْم الذي رزقها الله به , اشْتدَ خوفُهُ منْ أنْ يكون الله تعالي قد عجًل له به زيْنة الْحياة الدُنْيا وحرمه نعيم الآخرة , فكان رضي الله عنه يعين الْمحتاج , ويعطيْ الْمسكين , والفقير , ويبرَ ذوى الْقربى , ويجهز الْجيوش الغازية في سبيل الله , حتى بلغ منْ كثْرة عطائه أنْ يقال : إنَ أهْل المدينة شركاءُ لعبْد الرحمن بْن عوْف في ماله , فقد كان يُعْيهم ثُلُثهُ قرْضًا , ويقْضى بالثُلث الثاني دُيُونهمْ , ويصلُهُمْ بالثُلُث الْباقي .
ومن شدة ورعُهُ رضي الله عنه إنه صائمًا ذات يوْم , ولمَا أُحْضر لهُ طعامُ الإْفطار , ورأى كثرته وألْوانهُ الْمتعدًدة الْفاخرة , كفً يده عنْهُ , وجعل يصيحُ فيمنْ حوْله باكيًا , ويقولُ في خوْف شديد : ارْفعُوا هذا الطعام منْ أمامي , فإني أخْشى أنْ نكُون أعطينا ما في الدُنْيا , ولم يعدْ لنا في اْلآخرة منْ نصيب وجعل يردد قول رب العزة : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } ( الشورى : 20 ) .
ثُم زادتْ دُموُعُهُ انْهمارًا , وهُو يقولُ لهُمْ مُشدَدًا : أبْعدُوا هذا الطعام عنَي , فقدْ اسْتُشْهد مُصعبُ بنُ عُميْر , وهو خيْرٌ مني , فلم يُوجد له كفنٌ , فكفَنَاهُ في ثوْب إنْ ستر رجْليْه بدا رأْسهُ , وإنْ ستر رأْسه بدت رجْلاهُ !!.
واسْتُهد حمْزة بنْ عبْد الْمطلب عمُ الرسُول صلي الله عليه وسلم يوم أحد , وهو خيرٌ منَي , فلمْ نجدْ له ما يُكفن فيه سوى ثوب إنْ ستر رجْليه بدا رأْسهُ , وإنْ ستر رأسه بدت رجْلاهُ !!. ولقدْ مات رسوُلُ الله صلي الله عليه وسلم وما شبع هُو وأهْلُهُ منْ خُبْز الشعير.
من كتاب الجيل الرباني مواقف وعبر
{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }